ما قبل الاستشراق: الإسلام في الفكر الدينيّ المسيحيّ | فصل

«ما قبل الاستشراق: الإسلام في الفكر الدينيّ المسيحيّ» (2021)

 

صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» كتاب «ما قبل الاستشراق: الإسلام في الفكر الدينيّ المسيحيّ» (2021)، للكاتب المغربيّ د. عبد الإله بلقزيز. يبحث الكتاب في الجذور الفكريّة العميقة للرؤى الغربيّة الحديثة والمعاصرة عن الإسلام، وعالمه الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ، وبوجه خاصّ الرؤى الّتي عبّر عنها الاستشراق. وهي جذور تضرب عميقًا في تاريخ الفكر الدينيّ المسيحيّ، وقد عبّرت عن نفسها في نصوص بعض اللاهوتيّين والمؤرّخين، المشرقيّين واللّاتين على السواء، حول الإسلام في العصور الوسطى، الّذين ظلّت كثير من الأفكار والصور الّتي وضعوها عن الإسلام حاضرة ويعاد إنتاجها في الفكر الاستشراقيّ الحديث والمعاصر.

يتناول الكتاب الصور السلبيّة الّتي تكوّنت عن الإسلام في الوعي المسيحيّ الوسيط، ويحلّل السياقات التاريخيّة الّتي تكوّنت فيها تلك الصور، لكن دون الانسياق وراء إطلاق أحكام عامّة حول الفكر الدينيّ المسيحيّ في تلك الحقبة.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

مسيحيّة الشرق والإسلام

ما الصورة، أو الصور، الّتي كوّنها مسيحيّو المشرق عن الإسلام: دينًا جديدًا، وتعاليم، ونظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا (...) في لحظة اصطدام دعوته بمجتمعاتهم الاعتقاديّة في مَواطن انتشارها: في جزيرة العرب، ابتداءً، ثمّ في العراق وسوريا ومصر وأجزاء من بيزنطة (...) غداة عمليّات الفتح وإخضاع البلدان تلك لسلطانه؟ أيمكن عزل نوع التمثّل المسيحيّ للإسلام عن السياقات الموضوعيّة الّتي حصل فيها، وفي جملتها عمليّات الفتوح والإخضاع، أم في الوُسع الوقوف على وجوه من الاستقبال الإيجابيّ المسيحيّ لدعوة توحيديّة جديدة، ولحركة حملت بعض الخلاص لفئات واسعة من المسيحيّين نُبذت عقائدها من بيزنطة أو نُكّل بها من سلطات الإمبراطوريّة في بلدانها؟ كيف تَطوّر إدراك المسيحيّة المشرقيّة للإسلام، بعد لحظة الفتح، وبعد أن باتت هذه المسيحيّة جزءًا من أرض الإسلام ودخلت في نسيج حضارته؟ هل حالَ التمايز العقديّ والجدل اللاهوتيّ دون التعايش والاستقرار على مشتركات ثقافيّة؟

تلك بعض من أسئلة أخرى سيتناولها هذا القسم بالدرس، وهي تدور، في الجملة، على سؤال الصلة الّتي تولّدت من أوّل اتّصال للإسلام بالمسيحيّة في القرن السابع للميلاد، والوعي به دينًا جديدًا من جانب النصرانيّة العربيّة والمذاهب المسيحيّة المختلفة المنتشرة في الأرجاء؛ أكانت تابعة للخلقيدونيّة أم منشقّة عنها ومُدانة منها بوصفها ’هرطقات‘. إنّ البحث في جذور هذا الوعي المسيحيّ الابتدائيّ للإسلام أمر في غاية الأهمّيّة، بالنظر إلى أنّ ذلك الوعي الأوّل سيصبح تأسيسيًّا، ذا أثر ومفعول في كلّ الوعي المسيحيّ اللاحق: في المسيحيّة البيزنطيّة والمسيحيّة اللاتينيّة كما في بعض الاستشراق الأوروبّيّ الحديث.

 البحث في جذور الوعي المسيحيّ الابتدائيّ للإسلام أمر في غاية الأهمّيّة، بالنظر إلى أنّ ذلك الوعي الأوّل سيصبح تأسيسيًّا، ذا أثر ومفعول في كلّ الوعي المسيحيّ اللاحق...

ما من شكّ في أنّ الكثير من صور الماضي، الّتي كوّنها مسيحيّون مشرقيّون عن الإسلام في ذلك الإبّان، سيجد طريقه إلى إعادة التدوير والتداول في الوعي المسيحيّ اللاحق، وخاصّة في البيئات اللاهوتيّة. ولا يتعلّق الأمر في الصور تلك بما هو سلبيّ منها، حصرًا، بل حتّى بما عُدّ إيجابيًّا في تقدير المسلمين له. أمّا تفسير سلطة وعي المتقدّمين من المسيحيّين على متأخّريهم فمردّه، في المقام الأوّل، إلى أنّهم عاشوا تجربة الإسلام من الداخل، وتعرّفوا تعاليمه ونُظمه من كثب؛ وإلى أنّهم احتازوا العِلم بلغة الإسلام الرئيسيّة، أي العربيّة، وأتقنوا استخدامها؛ فمكّنتهم من الاقتراب أكثر من العالَم الدلاليّ للقرآن وتراث الإسلام الدينيّ[1]. ولم يكن يشبههم في هذا، جزئيًّا، سوى مسيحيّي الأندلس ممّن عاشوا في كنف دولة الإسلام.

تقتضينا هذه الملاحظة دقّة في تحديد معنى المسيحيّة الشرقيّة الّتي سننصرف، في هذا القسم، إلى البحث في أشكال تمثّلاتها للإسلام. الدقّة، في هذا الباب، مطلب منهجيّ عزيز، بالنظر إلى اتّساع معنى المسيحيّة الشرقيّة عند من يطلقون عليها التسمية هذه، من مسيحيّين رومان أو لاتين (غربيّين)، ومن مسيحيّين شرقيّين. هكذا، فالدارج أن تُجمَع المسيحيّة الأرثوذكسيّة البيزنطيّة، تحت هذه التسمية، جنبًا إلى جنب مع المسيحيّات المشرقيّة الأخرى (النصرانيّة، واليعقوبيّة، والنسطوريّة، والمذاهب الأخرى المُدانة من المجامع المسكونيّة البيزنطيّة مثل الآريوسيّة والأوطيخيّة... إلخ)، بل حتّى، جنبًا إلى جنب، مع الملكانيّة المشرقيّة[2]. لمّا كنّا سنعرض، في الفصل الثالث، للمسيحيّة البيزنطيّة وتمثّلاتها للإسلام، وننصرف في الفصلين الأوّل والثاني إلى تناول مسيحيّة المشرق غير البيزنطيّة (في جزيرة العرب والعراق وفارس وسوريا وفلسطين ومصر)، فسنميّز هذه الأخيرة من الأولى بتسميتها مسيحيّة مشرقيّة.

 

نصارى الجزيرة العربيّة... ’الهرطقات‘ المسيحيّة والإسلام

ليس مستبعدًا أن يزدهر البحث العلميّ، مستقبلًا، في الفارق بين النصرانيّة والمسيحيّة؛ بين النصارى أتباع دين عيسى ابن مريم، والمسيحيّين أتباع دين يسوع: كما عرضتْه المسيحيّة ’الرسوليّة‘ (الپولسيّة) في منتصف القرن الميلاديّ الأوّل. قد يشهد البحث ذاك على تولّد قدر من المعطيات يسمح بإعادة تركيب سرديّة جديدة عن هذا الدين التوحيديّ، خاصّة في ضوء الجهد العلميّ المبذول، منذ مدّة، في ميدان البحث في الأصول والمنابت الجغرافيّة للمسيحيّة، بعد تبيّن الكثير من تناقضات الروايات الرسميّة عنها وثغراتها، وتعسّر توفير دليل المطابقة بين مرويّات الأناجيل، و’أعمال الرسل‘، ورسائل پولس عن يسوع وعن النسب، وأمكنة الميلاد والتنقّل، وبين واقع جغرافيا فلسطين.

 يزيد من تعزيز فرص الذهاب بالبحث في تلك الأصول بعيدًا، أنّ مادّة معتبَرة من القرائن في حوزة البحث العلميّ اليوم في هذا الميدان؛ وليست الإفادات القرآنيّة عن النصارى إلّا واحدة من أوثق الوثائق المدوّنة، في هذا الباب، فضلًا على ما تسمح به الحفريّات في الشعر القديم، في الجزيرة، وفي الدراسات الفيلولوجيّة، خاصّة المقارِنة بين اللغات القديمة، فضلًا على النقوش وسوى هذه من الشواهد (...) من إمكانيّات استخدام موادّ جديدة لإنتاج سرديّة في المسألة أقرب إلى الدقّة، يعاد بها إدخال تاريخ النصارى وتراثهم، في جزيرة العرب وفلسطين، ضمن المجرى العامّ لتاريخ هذا الدين التوحيديّ الكبير بعد طول تجاهل.

جزيرة العرب (بلاد عسير: جنوب غرب المملكة العربيّة السعوديّة حاليًّا) هي الموطن التاريخيّ والجغرافيّ لليهوديّة ولتاريخ بني إسرائيل، والأحداث الّتي يرويها «العهد القديم» تطابق أمكنتها وأوصافها ما يوجد في بلاد عسير من أمكنة...

كان مثل هذا الجهد قد بُذل على صعيد التأليف العربيّ على الأقلّ، في ميدان دراسات تاريخ اليهوديّة، وجغرافيّة دعوتها وحركتها، منذ وضع كمال الصليبيّ عمله العلميّ الكبير في المسألة، مقيمًا الأدلّة، من النصوص ومن الشواهد الأثريّة والجغرافيّة[3]، على أنّ جزيرة العرب (بلاد عسير: جنوب غرب المملكة العربيّة السعوديّة حاليًّا) هي الموطن التاريخيّ والجغرافيّ لليهوديّة ولتاريخ بني إسرائيل، وأنّ الأحداث الّتي يرويها «العهد القديم» تطابق أمكنتها وأوصافها ما يوجد في بلاد عسير من أمكنة. قد خطا البحث في ميدان دراسات التاريخ الدينيّ العبرانيّ خطوات نوعيّة ملحوظة، منذ مطالع القرن الحاليّ، بفضل الدراسات العميقة الّتي أنجزها فاضل الربيعيّ، الباحث العراقيّ الرصين، المتخصّص في ميدان دراسات التاريخ الدينيّ والأنثروپولوجيّ للأديان التوحيديّة، وأماطت النقاب عن شواهد عدّة على أنّ اليمن كان موطنًا جغرافيًّا وتاريخيًّا لبني إسرائيل واليهوديّة[4].

 

الكون الجغرافيّ للمسيحيّة

 إنّ الورشة العلميّة عينَها تُفتح، اليوم، حول الكون الجغرافيّ والتاريخيّ للمسيحيّة: موطِنًا ونصوصًا وتعاليم وحركة انتقال وانتشار، منذ نشر كمال الصليبيّ دراسته عن شخصيّة يسوع[5] في المصادر المسيحيّة الأولى، المعتمَدة في المسيحيّة الرسميّة من الأناجيل و’أعمال الرسل‘ ورسائل پولس ورسائل يعقوب وبطرس ويوحنّا ويهوذا، كما في التاريخ، مشكّكًا في صلات مسيحيّي الجيل الأوّل بفلسطين، وفي الرواية عن يسوع من حيث هو عينه عيسى ابن مريم؛ الّذي تحدّث عنه «إنجيل النصارى» في جزيرة العرب. إذ يستكمل فاضل الربيعيّ اليوم إعادة تركيب صورة النشأة والتطوّر، في كتاباته عن المسيحيّة الأولى، ذاهبًا إلى التمييز الصريح بين المسيحيّة والنصرانيّة العربيّة، أصلًا للمسيحيّة تولّدت منه هذه عن طريق هجرات القبائل العربيّة النصرانيّة من نجران، جنوب غرب الجزيرة العربيّة، إلى الشمال، ومنه إلى بيزنطة ثمّ روما[6].

إذا ما قُيّض لهذه الأبحاث التنقيبيّة التجديديّة أن تصيب حظًّا من النجاح في تجلية الغوامض وابتناء القرائن الكافية على وجاهة كشوفاتها، فسيغيّر ذلك الكثير من معارفنا عن هذه الأديان التوحيديّة وأنظارنا إليها، إلى أصولها ومنابتها الأولى ونصوصها التأسيسيّة، خاصّة المسيحيّة، بالنظر إلى أنّها الّتي تعنينا في هذا الفصل، وسيُحرّر وعينا لتراثها من تأثيرات السرديّات التاريخيّة الرسميّة، ومن تأثيرات دراسات مؤرّخي الأديان والمستشرقين، وتنميطات كثير منها، وفي جملتها تلك الباحثة عن خطّ سير المسيحيّة في انتقالها – المفترَض - من فلسطين، ثمّ بيزنطة إلى داخل الجزيرة العربيّة، بل في وسع نجاح تلك الأبحاث أن يتخطّى، عمليًّا، حتّى تلك الجهود التنقيبيّة الجبّارة الّتي بذلها دارسون عديدون في مضمار الحفريّات عن البدايات الأولى للنصرانيّة في جزيرة العرب، ولكنّ الّتي لم تتحرّر، من جهتها، من قيود فرضيّاتها الضمنيّة الحاكمة للتفكير، والقاضية بأنّ تلك الجذور الأولى للنصرانيّة العربيّة استُنبِتت محلّيًّا بعد وفودها من الخارج، ولم تكن هي نفسها تلك الأصول[7].

لا يعنينا، في هذا الفصل، ولا في ما سيليه، البحث في تكوّن المسيحيّة، من زاوية التنقيب والفحص عن الأصول، ولا الانصراف إلى محاولة تبيّن ما إذا كان لها جذور نصرانيّة عربيّة؛ فليس ذلك في نطاق تخصّصنا، أوّلًا، ولا هو يقع في دائرة المبحوث فيه في هذا الفصل، وفي الكتاب، ثانيًا، بقدر ما يهمّنا أن نستطلع - في حدود المتاح لنا من المصادر - البيئات الّتي نشأ فيها هذا الدين وتَطوّره، من أجل أن ننصرف إلى تقفّي آثار الاستقبال النصرانيّ في الجزيرة العربيّة والجوار لدعوة الإسلام عند انطلاقتها واصطدام تعاليمها وحركتها بالعقائد القائمة في محيطها الجغرافيّ. يقع ضمن ذلك الوقوف على أشكال التمثّل النصرانيّ، والمسيحيّ، المختلفة لهذا الدين الجديد، لتعاليمه ومنظومة قيمه الروحيّة والأخلاقيّة، وللنظام الاجتماعيّ والسياسيّ الّذي تولّد من انتشاره وسيادته. ومن الطبيعيّ أن يكون رصد تفاعل النصارى العرب معه أوّل المدروس في هذا الباب؛ فهؤلاء كانوا - بحكم الانتماء الجغرافيّ والثقافيّ المشترك - الأسبق من غيرهم من مسيحيّي الجوار في الاتّصال به، والتماسّ معه، وتعرّفه، والتأثّر الموضوعيّ بمفعول وجوده وحركته.

 


إحالات

[1] على الرغم من تميّز نظرة المسيحيّة المشرقيّة البيزنطيّة عن نظرة المسيحيّة البيزنطيّة إلى الإسلام، إلّا أنّ مسيحيّي المشرق وبيزنطة، مجتمعين ومتفاوتين، لم يشوّهوا صورة الإسلام كما فعل المسيحيّون اللاتين. انظر في هذا: Alain Ducellier, Chrétiens d’Orient et Islam au Moyen Age: VIIe - XV siècle (Paris: Armand Colin, 1996), p. 32.1. 

[2] هذا ما دفع الأب يواكيم مبارك، مثلًا، إلى أن يلاحظ أنّه "في المشرق (...) وإن كانت الأعمال الملكانيّة محرّرة باليونانيّة، ينبغي أن يقع تمييزها، بعناية، عن أعمال البيزنطيّين". انظر: Youakim Moubarac, L’Islam et la dialogue Islamo - chrétien (Beyrouth: Editions du cénacle libanias, 1986), tome III, p. 233.1.

[3] انظر: كمال الصليبيّ، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ط 6 (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1997).

[4] انظر إليه في هذا الموضوع: فاضل الربيعيّ: فلسطين المتخيَّلة: أرض التوراة في اليمن القديم، 2 ج (دمشق: دار الفكر، 2008)؛ القدس ليست أورشليم: مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2010)؛ حقيقة السبي البابليّ: الحملات الآشوريّة على الجزيرة العربيّة واليمن (بيروت: دار جداول، 2011)، وإسرائيل المتخيَّلة: مساهمة في تصحيح التاريخ الرسميّ لمملكة إسرائيل القديمة، 8 ج (بيروت: دار الريّس، 2016).

[5] كمال الصليبيّ، البحث عن يسوع: قراءة جديدة في الأناجيل (عمّان: دار الشروق، 1999).

[6] فاضل الربيعيّ، المسيح العربيّ: النصرانيّة في الجزيرة العربيّة والصراع البيزنطيّ - الفارسيّ (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2009). انظر، خاصّةً، الفصلين الأوّل (ص 56 - 109) والرابع (ص 201 - 248) من الكتاب.

[7] انظر، في هذا، مصدرين من أهمّ المصادر في الموضوع: لويس شيخو، النصرانيّة وآدابها بين عرب الجاهليّة (بيروت: مطبعة الآباء المرسَلين اليسوعيّين، 1923)، وجواد عليّ، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 10 ج (قم: منشورات الشريف الرضيّ، [د. ت.])، ج 6 خاصّة.

 


 

عبد الإله بلقزيز

 

 

 

كاتب مغربيّ معاصر حاصل على شهادة الدكتوراة في «الفلسفة» من «جامعة محمّد الخامس». يشغل منصب أمين عام «المنتدى المغربيّ العربيّ» في الرباط.